وبحسب الموقع الإخباري لمتحف السينما الإيراني، فقد صنع زهران ممداني التاريخ مساء الثلاثاء بعد فوزه في انتخابات بلدية نيويورك، ليصبح أصغر عمدة للمدينة منذ أكثر من قرن، وأول مسلم يتولى هذا المنصب. لكن قبل أن يحقق هو هذا الإنجاز، كانت والدته قد سطّرت اسمها في سجلات التاريخ بإنجازاتها الخاصة منذ عقود.
والدته، ميرا نايار، البالغة من العمر 68 عامًا، تُعد من أنجح المخرجات المستقلات في جيلها، إذ استطاعت من خلال أفلام منخفضة الميزانية أن تحقق نجاحات نقدية وجماهيرية كبيرة، مع حفاظها الدائم على رؤيتها الفنية والسياسية والتاريخية المميزة.
وأشارت صحيفة الغارديان إلى أن سياسات العمدة الجديد الحماسية والشاملة تُذكّر برؤية والدته التي ظهرت بوضوح في أفلامها الجريئة مثل «سلام بمبئي!» و*«زفاف موسمي»*، معتبرةً أن ميرا نايار مخرجة رائدة ساهمت على مدى أكثر من ثلاثة عقود في تغيير طريقة تصوير الهوية الآسيوية الجنوبية في السينما العالمية. ومع تولي ابنها منصبًا حكوميًا رفيعًا، يبدو أن الإرث الثقافي الذي أسسته بات أكثر تأثيرًا من أي وقت مضى.
وُلدت نايار في الهند وتلقت تعليمها في دلهي وجامعة هارفارد، وقد عاشت دائمًا بين عوالم ثقافية متعددة، ما جعل هذا المزيج الثقافي والجغرافي والعاطفي في قلب سردها السينمائي. وبعد فترة دراسية في معهد MIT تحت إشراف ريتشارد ليكوك، أحد رواد السينما الحقيقية (سينما فيريتي)، انتقلت من التمثيل إلى الإخراج الوثائقي، وأسست شركة الإنتاج الخاصة بها «ميراباي فيلمز» عام 1989.
ومن خلال أعمالها، ساهمت في إنتاج مشاريع تُبرز الهوية الثقافية للمهاجرين والأصوات التي غالبًا ما تُهمَّش، لتصبح رمزًا للفن الذي يجمع بين البُعد الإنساني والرؤية الاجتماعية العميقة.

أخرجت نير أول أفلامها الطويلة بعنوان «سلام بومباي!» (1988)، الذي وصفته صحيفة ذا غارديان في ذلك الوقت بأنه «شديد الحيوية وخالٍ من العاطفة المفرطة». قدّم الفيلم صورةً مؤثرة عن حياة الأطفال المتروكين في شوارع الهند، ما جعل اسمها يبرز سريعًا كصانعة أفلام موهوبة على الساحة العالمية. وكان هذا العمل بداية سلسلة من الأفلام التي تناولت بعمق قضايا الهوية والهجرة والانتماء، وهي القضايا نفسها التي تقف في صميم الرؤية السياسية لابنها ممداني.
رُشّح الفيلم لجائزة الأوسكار لأفضل فيلم أجنبي، ليصبح ثاني فيلم هندي يُرشّح لهذه الجائزة في التاريخ، كما فاز بجائزة «الكاميرا الذهبية» التي تُمنح للمخرجين الجدد في مهرجان كان. استخدمت نير عائدات الفيلم لتأسيس مؤسسة «سلام بالَك»، وهي منظمة غير ربحية ما تزال حتى اليوم تقدم الدعم لأطفال الشوارع في دلهي وبومباي.
جاء فيلمها التالي عام 1991 بعنوان «ميسيسيبي ماسالا» من بطولة دنزل واشنطن وساريتا تشودهري، وكان من أوائل الأفلام التي تناولت التعقيدات العرقية التي يعيشها المهاجرون الهنود في جنوب الولايات المتحدة. من خلال قصة حب بين عِرقية، تناول الفيلم بأسلوب حساس موضوعات الهوية والاغتراب والانتماء، ما رسّخ سمعة نير كصوت بارز في تناول القضايا بين الثقافات. حصد الفيلم جائزة أفضل سيناريو في مهرجان البندقية وحقق إيرادات بلغت 7.3 ملايين دولار. وأثناء تحضيراتها للفيلم في أوغندا، التقت نير بزوجها الأكاديمي والسياسي المعروف محمود ممداني، والد ابنها زهران.
دفعتها روحها الجريئة لاحقًا إلى خوض تجارب أكثر تنوعًا عالميًا. ففي «كاما سوترا: قصة حب» (1996) تناولت نير وضع المرأة في الهند خلال القرن السادس عشر، لكن النجاح الأوسع جاء مع فيلمها «عرس موسمي» (2001)، وهو دراما كوميدية تدور أحداثها أثناء حفل زفاف فوضوي في دلهي، يصوّر الصراع بين التقاليد والحداثة بنبرة مرحة وواقعية. فاز الفيلم بجائزة الأسد الذهبي في مهرجان البندقية، لتصبح نير أول مخرجة في التاريخ تفوز بهذه الجائزة، وقالت عند استلامها الجائزة: «هذا الفيلم من أجل الهند، وطني الحبيب، مصدر إلهامي الدائم».
ذكرت مجلة فورتشن أن الفيلم، الذي أُنتج بميزانية تقارب 1.5 مليون دولار وصُوّر خلال 30 يومًا فقط باستخدام كاميرات يدوية، تحول إلى ظاهرة عالمية، إذ تجاوزت إيراداته 30 مليون دولار حول العالم. وبلغت مبيعاته في أمريكا وحدها 13.9 مليون دولار، وهو رقم قياسي لفيلم هندي في أمريكا الشمالية استمر حتى عام 2017 حين عُرض فيلم «باهوبالي».
أبرز نجاح الفيلم قدرة نير على الربط بين الثقافات والأسواق المختلفة، حتى أن الناقد الأمريكي الشهير روجر إيبرت منح «عرس موسمي» 3.5 نجوم من أصل 4، واصفًا إياه بأنه «أحد تلك الأفلام المفعمة بالبهجة التي تتجاوز الحدود الوطنية وتحتفي بالجوهر الإنساني المشترك».
واصلت نير الإخراج في مجالات وأنماط إنتاج متعددة، من بينها «فانِتي فير» (2004) من بطولة ريس ويذرسبون، ثم اقتباسها لرواية جومبا لاهيري «الأسماء المتشابهة» (The Namesake)، وهو فيلم تأملي عن حياة عائلة هندية-أمريكية عبر عقود، عُرف بهدوئه وعمقه وجمال تصويره، واعتُبر أحد أكثر الأفلام تأثيرًا في تناول الازدواج الثقافي وتجربة العيش بين عالمين دون انتماء كامل لأيٍّ منهما.
في عام 2012 قدّمت نير اقتباسًا جريئًا لرواية «الأصولي المتردد» لمحسن حامد، من بطولة ريز أحمد، تناولت فيه قصة رجل باكستاني يواجه الشكوك والتهديد في أمريكا بعد أحداث 11 سبتمبر. ثم أتبعت ذلك بفيلم «ملكة كاتوي» (2016)، وهو عمل سيري رقيق وملهم عن الطفلة الأوغندية المعجزة في الشطرنج فيونا موتِسي من أحياء كمبالا الفقيرة. نال الفيلم تقييم 94٪ على موقع راتن توميتوز، وشارك ابنها — الذي أصبح لاحقًا عمدة نيويورك — في الإشراف الموسيقي على الفيلم، ورُشّح لجائزة من نقابة المشرفين الموسيقيين.
كسرت أعمال نير منذ زمن طويل القوالب النمطية المفروضة على الصورة الثقافية لجنوب آسيا في السينما، وميّزتها شخصيات معقدة وسرديات إنسانية عميقة توازن بين التناقضات والعواطف بصدق ودفء. وعلى الرغم من أن أفلامها ذات طابع سياسي واضح، إلا أنها لا تحمل نبرة دعائية أو تعليمية، وربما يكون هذا النهج هو ما أسهم في تشكيل الرؤية السياسية لابنها أيضًا.
أكد ممداني، الناشط السابق في مجال حقوق السكن وعضو البرلمان المحلي، مرارًا تأثير والديه، ولا سيما والدته التي شددت على أهمية الجذور الثقافية والعدالة الاجتماعية.لا يقتصر تأثير نایر على السينما فحسب، بل يمتد إلى المجال المدني ونوع من النشاط الثقافي الذي يتناول الكرامة والإنسانية في حياة المهمَّشين؛ من أطفال الشوارع والمهاجرين غير الموثقين إلى أبناء الجيل الثاني من المهاجرين. أبطاله ليسوا شخصيات هامشية، بل يخرجون من قلب المجتمع ذاته.

صوت مستقل
طوال مسيرها المهني، فضّلت المخرجة ميرا ناير الصدق الفني على الضغوط التجارية. فقد رفضت عرض شركة “وارنر براذرز” لإخراج فيلم هاري بوتر وكأس النار، واختارت بدلاً من ذلك إخراج فيلم الاسم نفسه. وعندما سُئلت في مهرجان جايبور الأدبي عام 2018 عن هذا القرار، قالت إن ابنها البالغ من العمر 14 عاماً آنذاك، زهران، ساعدها في اتخاذه.
قالت ناير: «لقد رفضت هاري بوتر أيضاً. لقد شاهدوا فانّيتي فير ورأوه حيوياً وناجحاً، ففكروا: حسناً، لقد حققوا نجاحاً كبيراً مع المخرج المكسيكي ألفونسو كوارون في هاري بوتر 3، فلماذا لا يستعينون بتحالف من العالم الثالث لصناعة هاري بوتر 4!»
مسار ناير المهني يشكّل نقيضاً لقصص النجاح الهوليوودية التقليدية. فبدلاً من السعي وراء ميزانيات ضخمة، بنت شهرتها على أفلام ذات عائدات متوسطة، لكنها حصدت إعجاب النقاد وأثّرت ثقافياً. أفلامها سلام بومباي! وميسيسيبي ماسالا وعرس موسمي بلغت ميزانيتها الإجمالية أقل من 7 ملايين دولار، لكنها حققت أكثر من 45 مليون دولار في شباك التذاكر العالمي ونالت العديد من الجوائز.
ورغم أن ناير اتجهت إلى أشكال فنية جديدة، مثل إخراج الأوبرا، والتدريس، وتأسيس مدرسة للسينما في كمبالا، فإنها ما زالت متمسكة بالتزامها بسرد القصص من أجل التمكين. أحدث أعمالها، مسلسل شاب مناسب (2020)، مأخوذ عن رواية فيكرام سيث، وهو أول مسلسل من إنتاج هيئة الإذاعة البريطانية (BBC) يضم طاقماً تمثيلياً هندياً بالكامل. وقدّمت مؤخراً فيلم كمثرى الصبار للعرض في أمريكا الشمالية، كما تعمل على تحويل عرس موسمي إلى عمل موسيقي. وتواصل شركتها الإنتاجية تطوير مشاريع جديدة.
تتجاوز التزامات ناير الاجتماعية نطاق السينما. فإلى جانب تأسيسها مؤسسة “سلام بالك”، أطلقت عام 2004 مختبر السينما “مايشا”، وهو برنامج تدريبي مجاني لصنّاع الأفلام الشباب في شرق إفريقيا. وفي عام 2012، نالت وسام “بادما بوشان”، ثالث أعلى وسام مدني في الهند، تقديراً لجهودها. كما حازت على ترشيحين لجائزة الأوسكار، وترشيحين لجوائز “بافتا” و”سيزار”، إضافة إلى جوائز من مهرجاني كان والبندقية السينمائيين.
واليوم، بينما يستعد زهران ممداني لتولي منصب عمدة مدينة نيويورك في الأول من يناير 2026، مستفيداً من الدروس التي تعلمها من مشاهدة والدته وهي تشق طريقها في صناعة السينما بأسلوبها الخاص، يبدو جلياً أن روحها المستقلة قد أثّرت في رؤيته للقيادة.
كانت ناير قد وصفت ابنها في مقابلة عام 2013 حول فيلمها الأصولي المتردد، الذي ترك أثراً عميقاً في رؤيته للعالم، بقولها: «إنه أكسجيني ووقودي».
الآن، ومع ترحيب مدينة نيويورك بعمدة يمثل نوعاً جديداً من القيادة الأمريكية — شاب، ذو بشرة سمراء، ومسلم — يصعب تجاهل المسار الذي مهّد لنجاحه. فقبل أن يسطع نجمه السياسي، كانت ناير تؤسس لرؤية ثقافية أكثر شمولاً من خلال كل فيلم تصنعه.
وقد عبّر ممداني عن امتنانه قائلاً: «أمي وأبي، أنتما من جعلاني الرجل الذي أنا عليه اليوم. أشعر بفخر كبير لأنني ابنكما.»